ثقافة

لن أنزع معطفي / فرات الشامي

فرات الشامي

يصرخُ بي الحنين لتلك الصباحات الدمشقية التي افتقدناها تحت وطأةِ الدمار الذي خلفته يد القتلة، كثيرون من يحاولون غرس سكاكينهم في جسد المدينة العريقة…
يصرخُ بي الحنين لصوت “ فيروز” تنشدني لحناً يسوق الذكريات همساً عذباً برفقةِ حبيبةٍ خرجت من بين سطوري، في شتاء بلادي ذاك الذي نحاول العبور منه نحو الربيع، فغدت كمعطفٍ يضم أفكاري وثورتي، يشعل اشتياقي للحروف، يلهب الغضب بداخلي، يجمع شتات نفسي بين ذات العاشق والثائر، والتوفيقُ بين ذاتين يعني المزاوجة بين مفهومين، قد يعتبران متناقضان، لكنما الأيامُ تكشفُ عن التكامل بينهما وإمكانية الولوج إلى تلك العوالم برفقةِ من تشاء، ممسكاً بيدِ حبيبةٍ صارت زوجةً وتوأماً لروحك… محتمياً بظلِ وطنٍ يتسع لكما… ولكل قصائدك… لثورتك… لقلمك… وطنٌ تحتمي به كما تحتمي بصدرِ أنثى، تغرف منه قطرات الندى من فوق وريقات الأيام…
إنها الذاكرة، ذاكرةٌ تعني انتمائك لكل هذه المعاني… فالوطنُ فكرة… والأنثى فكرة… الثورةُ فكرة، جميعها أفكار… ترتيب الأفكار حسب الأولويات ضرورةٌ في زمن الحرب والتغيير الجذري.
تحتاج لفنجان قهوةٍ بهال الطمأنينة، وعيناك ترابط عند ثغرٍ ما، بينما تسرح بعالم خيالك قليلاً نحو طفلٍ يلعب في حديقة قريبة… ربما هو طفلك… يدك تمسك بالزناد وأخرى تكتب للتاريخ… تحن إلى زوجةٍ تركتها بعيداً تلك الليلة، تشتاق لمداعبةِ خصلاتٍ من شعرها المنثور شلالاتٍ على كتفها… لكنها ضرورات الحرب… حالاتٌ عشقيةٌ تموج بداخلي، بل ربما بداخل من عرف الحب في شوارع مدينةٍ بحجم دمشق، حتماً لأن ظلال ياسمينها فوق رؤوس العاشقين وتدليه يكاد يشابه يد الأم التي تبارك حبك… إنه الشعاع الذي افتقده كل مأسورٍ… والسجون في أيامنا لا تحصى… فأنت معتقلٌ في زنزانةٍ تحت السماء، تلك السماء التي لم نعرف يوماً أنها تمطر الرعب والدمار، تمطر براميل الموت التي لم نألفها،… أنتَ معتقلٌ في زنزانة الأفكار التي لا بد من ركنها جانباً ربما لترى الضياء ذات انتصار، وما أصعبَ أن تكون معتقلاً للحرية التي حاربت من أجلها… الحريةُ في زماننا قيدٌ جديد، ليس لذاتها، حتماً إن وراء كل قيدٍ من وضعه بيدك… ربما الظروف… ربما الحب… ربما الخوف… تفسيراتٌ ومبرراتٌ كثيرةٌ… جميع تلك المعاني قيود… وحدها الوريقات البيضاء، وإن بدت عاريةً من الكتابةِ فهي بشكلٍ ما ترمز للنقاء، ولربما تصبح السطور قيد..
تقلبتُ في أحوالِ هذه القيود، فما وجدت غير عالمي القديم، على ضفاف الفرات افترش جسدي فوق العشب وأرسم ملامح وجهها.. تلك الأنثى التي باتت حقيقةً، تارةً أرسمها بقلمي… تارةً ألونها بريشتي… ولحن الناي يستمر، فيروز تعرف متى تغني وتزيد من حدة شوقي وهيامي بدمشق، وكأنها حين غنت مرت بسطوري، وذاقت حنيني لزيارة مدينةٍ غبتُ عنها وهي تبعدُ عني خطواتٍ قليلة… ويخفت صوت الرصاص… الباب يفتح نحو المستقبل… نمتطي صهوة الخيال، ما عاد في زماننا شيءٌ يسمى الخيال… فالثورةُ تصنع الحقائق رغم ما قد يظنه البعض من أوهامٍ… أو عوائق… أيُّ عوائقَ في الطريق زائلةٌ كالزبد، فقط حينما تنزل دمشق لتستحم بالفرات كعروس… حينها تنطلق بأنثاك في فضاءاتٍ واسعةٍ تمتد بلا حدودٍ، ولا تعرف النهايات…
ذاته الحنين يصبح هاجساً ينهضُ ما تبقى من رماد رجولتي، يلملمني، يرصف حروفي، لأكتب لأول مرةٍ لحبيبتين، لأميرتي أخلدها، لدمشق أرصع رأسها بتاج انتصارٍ لكرامتها… ربما يحييها دمي ذات يومٍ من غفوتها… أو لربما يروي تربتها… أو لعله يمتزج بشقائق النعمان… ويعود الشتاء ربيعاً، لكنني يومها لن أنزع معطفي…!؟

Click to comment

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

To Top