ثقافة

طلعنا عالحرية / لينة عطفة

مجلة-طلعنا-عالحرية-Rising-For-Freedom-Magazine

لقد سمعت القصص التي عاشها الإنسان السوريّ، كانت الصور مفجعة والتفاصيل رهيبة لدرجة أنه لم يخطر لي يومًا أن أكتب عمّا سمعت ورأيت، دومًا شعرت أن اللغة أقلّ أمام الكارثة، لكنني لطالما سألت نفسي هل كانت البشريّة دومًا تعيش أهوالاً كهذه؟

ماذا لو أنّنا أغلقنا الأبواب على أنفسنا وانتظرنا معجزةً تشبه أحلام الأطفال، تفتح باب الحلم/الواقع لنشهد أننا تخلّصنا من الخوف والذكريات المريعة والكوابيس.

تأتي الأخيلة محمّلةً بماضٍ يهبّ من جهة لم نعرفها، ذات الماضي لكن مع الأشياء التي أحببناها فقط، في الصف الثاني الابتدائي توفّيت معلّمتي بسرطان الدم، كنت أحبّها، كانت نجمتي العالية وحين ماتت كانت أوّل مرّة أعرف فيها الموت، ماذا يعني ماتت؟! لن أراها مرّة أخرى!! فقط في قلبي، وماذا يعني قلبي؟

بقي قلبي مشروخًا وبقي الموت رعبي الأول لأنني لم أفهمه، لقد كان يعني لي أنّني لن أتمكن من عناق من أحبّ ثانيةً، يجب على معلمات المرحلة الابتدائية ألا يمتن، وإذا شطح خيالي صوب من أحبهم حدّ الجنون أقول: يجب على الحياة أن تسير بلا نهاية بلا موت، المرارة هي أنّ البشريّ لا يستطيع أن يثبت جدواه إلا من خلال موته!

إذن هل الثورات مثلنا لا تستطيع أن تثبت جدواها إلا من خلال عبورها أرض الموت؟ لم أعرف ثورة ماتت وعادت بديلتها بكيانها وأحلام أبطالها الذين رحلوا، كل ما أكتبه هذيان ودوائر حول دوائر، أحاول رصد ما يدفعني إلى العدميّة، أتذكّر الخوف من اسم الطاغية، صورته، صوته، عسسه، الأبنية الرسمية التي تعني سطوته، الوصول إلى النوم آمنين لليلة جديدة في بلاد الخطف من الشوارع، أغصّ حين أتذكر المظاهرات في سلميّة، كنّا نتصل بمكتب التاكسي: صوب قبّة تامر للمظاهرة!

صوت الحرية فاتحة كلّ شيء، الشوارع التي رأيتها منذ اليوم الأول في حياتي، مع صرخة الحرية كنت أراها  للمرة الأولى، لم أكن أعرف ما هي حتى صرخت بها مع الناس في الشوارع، إنها قبل كلّ شيء الصوت، إذ إننا نكون في عزلة الأرحام ونخرج للعالم فنصرخ، شهقة الحياة أولى بصمات كياننا، كأن الصوت شرطه المخالطة التي هي أسّ الحريّة، لذا فإن الاستبداد يضعنا في هيولاه معزولين عن كلّ شيء حتى عن ذواتنا لنخرج مسوخًا أو نبقى فيها إلى الأبد! حين نكون تحت وطأة البطش نلوذ بالغيب والإنسان لوّاذ قبل أن يكون بطشٌ، فكيف به وهو يذوق مرار القهر في كلّ نفس من أنفاسه؟!

لقد سمعت القصص التي عاشها الإنسان السوريّ، كانت الصور مفجعة والتفاصيل رهيبة لدرجة أنه لم يخطر لي يومًا أن أكتب عمّا سمعت ورأيت، دومًا شعرت أن اللغة أقلّ أمام الكارثة، لكنني لطالما سألت نفسي هل كانت البشريّة دومًا تعيش أهوالاً كهذه؟ وإن عاشت، فلماذا بعد خمسة آلاف عام من الأبجديّة لم نجد طرقًا نوقف بها هذا العنف الجامح؟! هل صحيحٌ أنّ العالم كلّه سيدفع ثمن مآلاتنا نحن السوريين؟ حين أردّد ذلك بيني وبين نفسي أشعر بالعدل لكن هذا ليس عدلاً ولا سياقًا صحيحًا، لا نريد مآلات تكسرنا، ولا أريد أن أكذب على نفسي وأقول إن العالم سينكسر إذا انكسرنا، ببساطة، ثورتنا جعلت عزلة العالم أوضح، إننا لا أحد، لكنّنا نريد أن نكون فحسب، وحين يكون كلّ شيء ضدّ تحقيقنا شرطنا الإنسانيّ بالحياة أوّلاً ثم الحرية، فذلك يعني أن البشر عبر كلّ ما اخترعوه وابتكروه وقالوه لم يجدوا حلّا للإشكال الإنساني الأول في الوجود وهو الخوف!

يجتمع رجال السياسة على هذا الكوكب ليتباحثوا حلّ قضيّتنا، وإننا إذ نعلم أنّهم فقط يضيّعون الوقت غير عابئين بكل ما رأوه و يرونه من مآسٍ، فإنّ حالنا كحال الفلّاح العجوز حين مرضت ابنته وقال الطبيب له لا دواء لها إلا أن تحبل، فزوّجها لأوّل رجل قرع بابه وكان نصابًا، ديوثًا، نذلاً، وعندما عاتبه الناس قال: لا أريدها أن تموت وشفاؤها في الحبل، فلتحبل وتشفَ ولو حبلت من بغل!

وإننا نقول لأوباش العالم وثعالبه الذين اجتمعوا على مدار السنوات الخمس المنصرمة، لا نعرف أين ستذهب بنا خطانا لكنها لن تعود بنا إلى ما قطعناه، نعرف أن لا منجاة لبلادنا إلّا أن تحبل ثورتنا وتنجب الخلاص ولو حبلت منكم!

Click to comment

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

To Top