ثقافة

الكتابة المؤنّثة: معصيةٌ لا تنتظر غفرانا!

لينة عطفة

الصوت هو حالة الانعتاق الأولى صوب الحياة، ثمّ كانت الكلمة، وحين أفكر بالكتابة بوصفها طريقة حياة بالنسبة لي، أعلى وأبعد من الشغف، تستوقفني الكثير من الحوادث التي جعلتني مراراً أحاول ترتيب أفكار حول الكتابة. ليس ما أكتبه أنا فقط، بل ما تكتبه الأنثى بشكل عام. وأقول الأنثى ليس لأنّ للكتابة جنس مذكر أو مؤنث؛ فللكتابة جنس الملاك، لكن منذ عصور ثمّة عنفٌ يفرض على الأنثى هويّة خاصة في كلّ شيء، بدءاً من تنفّسها وليس انتهاءً بطريقتها في التعبير عن نفسها في كل أنواع الفنون وليس الكتابة فقط.

الأنثى منذ البدء مُتهمة أوّلاً بالمعصية، ثمّ المكر والخداع والكيد والفتنة، ومنذ الاتهام الأوّل، الأنثى دائماً موضع شكّ وريبة، أُعدّت لها صورة نمطيّة تكرّست في الذاكرة الإنسانيّة على مرّ العصور، مذ أن خسرت تاج الألوهة، وحتى ثقافة الاستهلاك والتسليع الجسدي والروحي. لذا لطالما كانت المرأة تحت ضغوط القمع والمراقبة والوصاية: سلطة الأب، والأخ، والزوج، والابن، والمجتمع، وحتى هي وقفت ضدّ نفسها، إضافة لظلم الطبيعة ولعنة/ نعمة الحفاظ على النوع.

بعد كلّ ذلك الحصار وجدت الأنثى ألّا خيار أمامها لتعبّر عن وجودها سوى الالتفاف على واقعها، فكانت غامضة بكيانها وروحها، مُنغلقة على عوالم من الأسرار، منفتحة على عزلة خيالها ورغائبها وأكوانها، وهكذا بقيت عصيّة مُلغّزة، تشيطنها الذكورة وتغرق فيها بهوس مناميٍّ!

أضف أنّه وأمام كلّ ما يحدث في العالم فإنّ الإنسان يرزح تحت ضغوط هائلة: الاستبداد والتهميش والاستلاب الاستهلاكي للإنتاج والعمل، والحروب والقتل وو..، والأنثى بوصفها إنساناً قبل كلّ شيء فإنّها تعيش هذا البؤس. تراه وتحاول أن تقاوم وتكافح في سبيل حياة أفضل، تحاول النجاة من كل هذا الجنون العبثيّ، وهنا تكون الكتابة شكلاً من أشكال مقاومتها ودفاعها عن وجودها.

الكتابة تجربة إنسانية تحتاج إلى الانفتاح على العالم والتجارب الفكرية والعاطفية والحسيّة، والكاتب يُثبت هويّته وبصمته الأدبيّة من خلال التقاطه للتفاصيل ووعيه الخاص للواقع. وحين نقول “انفتاحاً وتجارب” نتذكر مباشرة أنّ الأنثى مُقيّدة أمام البحث والتجريب، مقيّدة في انفعالاتها من الداخل والخارج.. لذا في الغالب نجد لغتها ونصوصها ضبابيّة، لأنها تولد ليكون شرط حياتها أن تكون سرّاً (الحياء والصوت المنخفض والضحكة الناعمة والخوف وعدم التصريح أو المبادرة…الخ).

ينعكس كلّ ذلك الكبت في اللغة والنصوص، والكتابة تحتاج مساحة من الحريّة أضعاف ما يعيشه المرء في حياته، لذا حين تحاول الأنثى التحرّر فيما تكتبه فإنّها في البداية تحطّم قيود مُجتمعها وتدفع أثماناً قد تكون أكبر بكثير ممّا تستطيع تحمّله، فيخلق ذلك شروخاً في كيانها. وإذ تكتب فإنّ انعتاقها في اللغة يكون أقلّ ممّا هو عليه في الحياة، فتلجأ للمواربة أو لمحاكاة صوت المألوف والدارج والذي هو تناص مع صوت المُذكر الأوّل التاريخي الذي هو بالضرورة كلاسيكي ونمطي، وهنا يكون الذكر أيضاً ضحية هذه المحاكاة.

المرأة تخوض عدّة تحديات في خلق هويتها اللغوية، أوّلها هو انعتاقها وتحرّرها من قيود التاريخ والدين والمجتمع وسلطة الذكر. وثاني هذه التحدّيات هو الخروج عن المألوف، ومحاولة ترسيخ بصمة أدبية خاصّة بها، واكتشاف مساحات جديدة في اللغة والخيال، تعرّف من خلالها الأنثى حين تمتهن الكتابة بوصفها هويتها الأولى وليس بوصفها عملاً جمالياً ثانوياً يُزيّن المرأة التي تطبخ وتنجب وتطيع. أمّا ثالث التحدّيات فيتمثّل في مجاراة أشكال الكتابة المعاصرة، وهذا تحدّ مفروض على كل الكتاب، لكنّه وفي عالمنا العربي يكتسب تعقيداً مُضافاً في خضم ما تعانيه الذات العربية من غياب وتغييّب.

أمام كلّ هذه التحديات وسواها يبقى الطريق طويلاً وشاقاً لكلّ أنثى تطمح وتسعى لأنّ تكون كاتبة، لكنه في النهاية يتجه نحو لغة تعترف أوّلاً وأوّلاً بالإنسان!

 

Click to comment

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

To Top