لقاءات

الفنان سميح شقير في لقاء مع طلعنا عالحرية

“لا بد أن تستعيد الحياة توازنها.. علينا أن نتمسك بالأمل”

«هجرت عودي بعد شعور عميق بعبثية  التعبير عما أراه..»

“لا بد  أن تستعيد الحياة توازنها.. علينا أن نتمسك بالأمل”

“الحياد لا أخلاقي لأنه يساعد على توغل وامتداد العنف”

من ينحت في قلب الصخر روحاً ويعزف من صدى الآلام والمعاناة لحنا لابد له أن ينحاز لثورة شعبه. لم تكن اغنية “يا حيف” أولى اغنيات الفنان الملتزم سميح شقير، والتي لامست وجدان كل سوري ثائر بداية الثورة، والتي غناها الثوار في كل أنحاء سوريا حتى في المساجد، وانما كانت تتويجاً لمسيرة طويلة من الأغاني الملتزمة بقضايا الناس والوطن.

كما أنها لم تكن الأخيرة، حيث تبعها العديد من الأغنيات النازفة من جروح الناس: “هي يا بنات” و أغنية “قربنا يا الحرية”.. “اشتقنا للشام” ، “يا حمص”..  وغيرها من الأغاني التي واكبت الثورة السورية العظيمة في مراحلها المختلفة.

 سميح شقير ابن بلدة القريا في محافظة السويداء، مواليد الجولان السوري المحتل قرية واسط، عرف بأغانيه الوطنية الثورية الملتزمة التي كتب معظم كلماتها وقام بتلحينها جميعا. كما قدّم سميح شقير العديد من الفنانين، من أبرزهم الفنانة سهير شقير صاحبة الصوت الاوبرالي المميز. ولحن الموسيقى التصويرية للعديد من المسلسلات والمسرحيات، ابرزها مسرحية “خارج السرب” للمرحوم الشاعر والكاتب الكبير محمد الماغوط، كما لحن وغنى للشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش.

كان لمجلة طلعنا عالحرية هذا اللقاء مع الفنّان  سميح شقير والذي حدثنا بشجن وألم عن تجربته الفنية، وعن تشكل ذائقته ووعيه.. عن انحيازه لهموم الناس البسطاء والفقراء.. عن الثورة المقتلة، عن اليأس، وعن الأمل، والألم الذي يستطيع أن يورق الأغنيات..

 

منذ البدايات انطلق سميح شقير بأغان مختلفة.. ذائقة جديدة على صعيد اللحن والكلمة.. من أين استقيت ثقافتك الموسيقية والشعرية؟

 

اعتقد أن كثير من العوامل تلعب دوراً في تشكل الذات والاهتمامات والذائقة، وبالنسبة لي ربما كانت طفولتي المتقشفة بالألعاب والهدايا ورغد العيش ذات أثر بالغ في تنامي وجموح المخيلة والاحساس المبكر بغياب العدالة، كما كان لطبيعة المجتمع المحافظ حولي دوره بجعلي اتنبه الى جمالية الخروج من عباءة النمط الى رحاب التفرد وامتلاك جرأة الرفض لكل ما يجعلني لا أشبه ذاتي، وبسبب نهمي بقراءة الروايات والأشعار وفيما بعد الكتب الفلسفية والفكرية وانفتاحي المبكر على المجتمع والصداقات والحوار والحب، الحب الذي لامس قلبي فزودني بالحاسة السابعة!

كل هذا شكل رصيداً معرفياً وخلفية لخياراتي الفنية والجمالية والسياسية، وهو بالتأكيد بتفاصيله ومخزونه شكَّل مروحة الذائقة وتعدد ألوانها التي كنت أنهل منها قصيدتي ولحني.

 

كيف تنظر إلى الفن ودوره في تشكل الوعي الخاص والعام؟ وكيف تقيّم تجربتك في هذا الصدد؟

 

لأن الفن هو مفتاح الدخول الى عالم المشاعر والأحاسيس فهو استثنائي بقدرته على التأثير  نظراً لتعدد وسائله وتوأمته مع متعة التلقي،  وكونه حمالاً لرسالات قيمية وفكرية وجمالية ولذلك يعتبر الفن مقياساً حضارياً بين الشعوب كما هو معروف،  ولكن ايضاً بالملموس لطالما تأكد لي من خلال الكثير من الشواهد كيف استطاعت أغنية أو موسيقا او لوحة على سبيل المثال أن تغير من قناعات أو سلوك كثير من الناس بما فيها أغنيات لي كان أثرها استثنائي ودرجة تأثيرها فاجأت الكثيرين وفاجأتني أيضاً.

 

منذ اللحظة الأولى حسم الفنان سميح شقير موقفه مع الشعب الثائر.. بينما آثر آخرون إما الوقوف مع النظام القاتل أو “الحياد”.. هل يستطيع الفنّان فعلاً  أن يبقى محايداً؟

 

السؤال ليس إن كان يستطيع.. لأنه يستطيع بالفعل وهذا ما فعله كثير من الفنانين،  ولكن السؤال هل هذا أخلاقي؟ وهل هذا مقبول؟

من وجهة نظري هذا غير مقبول بل وغير أخلاقي لآن الحياد في زمن كالذي نعبره الآن، بقسوته المفرطة وبمستوى الممارسات الإجرامية والوحشية، يساعد على توغل وامتداد هذا العنف، خاصة إن كان ضحاياه هم أبناء بلد هذا الفنان، إن الدفاع عن مجتمع ننتمي اليه بمواجهة ارهاب وبطش السلطة أم أي إرهاب دخيل هو قضية جوهرية نعزز بها قيمنا الإنسانية، وبتخلينا عن هذا الدفاع فإننا نتحول الى مشاركين بتثبيت الطغاة ومسؤولين عن استمرار الاستبداد  بأشكاله الأمنية أم الدينية.

 

ضمن متاهات العسكرة والتطرف والحرب الدائرة في سوريا.. ماذا بقي للنشاط المدني ولمن حملوا راية السلمية ليفعلوا؟

 

بالطبع بعد اشهر من الثورة السلمية التي لم نقرأ في التاريخ عن شيء يشبهها بصمودها السلمي اشهراً تحت الرصاص تم دفعها تحت وطأة العنف والوحشية باتجاه العسكرة، وهذا ما ظهر لاحقاً أنه نقطة تقاطع مصالح النظام مع مصالح عدد من الدول الإقليمية لتحويل الثورة الى حرب ذات طابع ديني ولتبتعد عن مسارها الحقيقي كثورة شعب ضد الاستبداد والديكتاتورية ، فاستهدف النظام الناشطين المدنيين  بالقتل والزج في السجون وتم توريط الجيش بمواجهة الشعب.. هذا من ناحية ..  ومن ناحية ثانية تم دعم الكتائب المسلحة والجهاديين بالسلاح من قبل دول إقليمية ظاهر سلوكها هو دعم الثورة وجوهره هو تقويض الثورة التي تتخوف تلك الدول من وصول شرارتها  اليها، لذا تقاطعت المصالح جميعها ضد الثورة الحقيقية فتشرد الناشطون المدنيون او تم سجنهم او قتلهم، فتوقف معظمهم عن النشاط خاصة أن الدعم قد طال المسلحين من الأطراف المتحاربة، بينما بقي المدنيون تحت رحمة انعدام الموارد.. وتحت القصف وانهدام المرافق والبيوت.. مع عودة الرعب الأمني الذي تم كسره بداية الثورة لكنه عاد، حتى أن النظام لم يعد يقبل بأي صوت يعارضه ولو من معارضين محسوبين على النظام نفسه أو من المتهمين بأنهم صنيعته،  فإذا كانت هذه هي الصورة فلنا أن نقدر صعوبة العمل المدني والسلمي الذي لا يمكن لأحد أن يجزم بتوقفه، لكنه اصبح ضعيفاً ومن الصعب تمييز مظاهر واضحة له.

 

بعد كل هذا الالم الذي عشناه.. وكل هذه المجازر والدماء، ما الذي يثير او يستفز الفنّان.. وهل  ينضب الابداع.. ؟

 

سؤال كهذا لا بد أنه أستوقف الكثيرين  وأنا منهم،  وتأكيداً لهذا فأنا منذ مدة قصيرة فقط عدت لأمسك عودي بعد أن هجرته لأكثر من ستة اشهر،  وتبين لي وانا احاول فهم أسباب ذلك أن كمية الدماء وصور البطش والذبح والإذلال التي كنت  اتابعها قد عاثت خراباً في روحي واخذتني عبثية الكثير مما يجري الى شعور عميق بعبثية  التعبير عما أراه.. بل واستحالة ذلك، فأي لغة وأي موسيقا يمكنها مقاربة هذا الجحيم ؟؟؟؟

ثم أن ارتفاع منسوب الألم عند الناس يصبح عائقاً امام التلقي، فتنحسر قدرة الفنون في التأثير والوصول للمشاعر، فما يرونه بأبصارهم ويحسوه بأجسادهم يتجاوز بهوله ومداه ما يمكن أن يطرحه أي عمل فني،  ربما بتنا نحتاج قليلاً او كثيراً من الوقت – لست ادري – كي نستوعب حجم الكارثة ومدى هذه المقتلة التي يتعرض لها شعبنا، وبعد ذلك لا بد  أن تستعيد الحياة توازنها، علينا أن نتمسك بالأمل بأننا ذاهبون بعد هذا كله الى سوريا الأجمل مما مضى، والى ما يستحقه شعب قدم كل هذه التضحيات.. هذا هو الأمل.. وإذا كان من الصعب إثباته اليوم فمن الخطير ايضاً أن نشعر باليأس من إمكانية حدوثه.

 

 بدأت تبرز مؤخراً مواقف لمعارضين معروفين من السويداء والأقليات عموماً والتي تعلن إن صراحة او بشكل مبطن عن قلقها إزاء انتصارات جبهة النصرة او داعش على النظام في بعض المناطق.. حتى أن بعضها لم يتردد إزاء الخيار المفروض (النظام أم التطرف الإسلامي) أن يختار النظام..  ماذا يقول سميح شقير في هذا الصدد ؟

 

ما اريد قوله أن النظام استطاع بعد جهد عدة سنوات أن يوصل الكثيرين ليطرحوا هذا السؤال وبشكله المضلِل .. ماذا تختار؟  النظام أم التطرف الإسلامي ؟ وكأن قدرنا إما السيئ وإما الأسوأ، وبرأيي أن عموم شعبنا يرفض طرفي هذه المعادلة ، إن ما طالب به وانتفض من أجله  معلوم ايضاً، وهو حقوقه الأولية البسيطة والتي حرم منها دهراً ولخصها بالحرية والكرامة، ووثقها بتفصيل عبر وثيقة القاهرة التي أجمعت عليها كل الأطياف السياسية السورية الثورية والمعارضة،  ومن ناحية ثانية فمن الراسخ بمعرفتنا بشعبنا  أنه بعمومه بعيد تماماً عن التطرف.

 لكن من منغصات هذه الثورة انها بعد الأشهر الأولى  فقدت صوتها الحقيقي وتم تشويه ممنهج لصورتها،   فالقيادة انتقلت من التنسيقيات الى الجيش الحر الذي بدأ ثورياً لكن سرعان ما تحكم بمعظمه الداعمون الإقليميون ليحولوا معظم فصائله الى مجموعات جهادية وبعقيدة دينية متشددة وذات اهداف مغايرة لأهداف الثورة، وكأن الشعب قام على هذا النظام لأنه يضطهده  دينياً.. وهذا غير صحيح..، فأختفى علم الثورة او كاد، وارتفعت الاعلام الدينية، وبات الحديث عن الخلافة رائجاً ومتوازياً مع تكفير للوطنيين والثوريين المنادين بالدولة المدنية والديمقراطية والتعددية والعدالة الاجتماعية.

إذن فقد طغت صورة الجهادي المتطرف وغابت صورة الثائر. ثم قدمت الكتائب المسلحة نموذجاً رديئا في إدارة المناطق التي تخضع لنفوذها. كما اني لا ارغب بالحديث اصلاً عن فشل المعارضات التي هي أشبه بهياكل لا روح فيها.  لذلك ليس بمستغرب أن تحضر مقارنة السيئ بالأسوأ، لكن المستغرب أن يطرح البعض أن علينا أن نختار احدهما..!  وهذا بالضبط ما عمل النظام من اجله حين حرص على التجييش الطائفي منذ بداية الانتفاضة، ثم جرها بعد أن اصبحت ثورة الى العسكرة، ثم أفرج من سجونه عن معظم الذين يقودون التنظيمات المسلحة حالياً وسهل سيطرتهم على مناطق بعينها وهو يدرك أي نموذج سيقدمون ليكون بمقدوره وبالرغم من كل جرائمه بحق مواطنيه أن يدعي ويطرح نفسه  كخيار أفضل من بين خيارين سيئين..

برأيي.. علينا أن نكون أغبياء بما يزيد عن الحد لنختار احد طرفي هذه المعادلة.

 

Click to comment

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

To Top