ثقافة

الربيع والنار توأمان

مجلة-طلعنا-عالحرية-Rising-For-Freedom-Magazine

حيدر محمد هوري

لن أبدأ بحديث كلاسيكي عن الربيع والمروج الخضر. لن أشغلكم بالكلام عن أحاديث العجائز أمام عتبات البيوت، سأنسى تفاصيل الربيع في القرى، سأنسى الجداول والينابيع، سأنسى التلال المزركشة بقطعان المواشي وبساطة (الرعيان). كل هذا لأستذكر (أبو الفوز) وعائلته تلك الندبة العميقة في الذاكرة، لأنني ما زلت أنتظرهم وأترقب قدومهم، هذا هو العام الخامس على غيابهم.

عائلة أبو الفوز، تلك العائلة المنحدرة من أصول ألبانية لم تزل تربك روحي. إنها عائلة مازجت بين خواص الماء والنار، بين الرماد وملامح الربيع، بين رائحة الرصاص وعبير الزهور البرية، تلك العائلة التي علمتني الكثير.. الكثير في هذه الحياة.

المشاهد مازالت حاضرة في الذاكرة رغم تساقط بعض التفاصيل، صفاتهم وملامحهم، لن أنسى قاماتهم الطويلة، ولا شقرتهم، أو حتى صبرهم على العمل وعلى فضول أهل القرية وأسئلتهم الساذجة، كم كنت أحاول عد نقاط النمش الموزعة بعشوائية على وجوههم. ملامحهم كانت كفيلة لأن تقول لك: “إنهم غرباء عن هذه القرية”، لكن الغرباء الآن كثيرون في بلدي، وملامحهم تدل على عدم ارتباطهم بطين هذا البلد، لست أدري لماذا يقول مختار الوطن: “أنهم من آل البيت”.

إنهم العائلة النبوءة صدقوني فكل ما فيهم وكل ما يحيط بهم ويصدر عنهم يؤكد ذلك، لقد علموني أن الغرباء يمكن أن يصبحوا كأهل الدار، ويمكن أن نشاركهم في زادنا وقمحنا، ويمكن أن يصيروا أصهرة  وأصدقاء أو أعداء. هذه العائلة لم تعرف المستحي، لكننا لم نتعلم منهم كيف تنصب الخيام!.

كنا صغارا، نحوم حولهم كأفراخ الدجاج التي تنتظر حفنة من الحب. كانت الأيدي تعمل بخفة ورشاقة. لكل يد طابعها الخاص، “هناك يد حالمة وثانية مزاجية، وثالثة طائشة، ورابعة قاتلة وأخرى مبدعة”، هكذا كان يقول جدي.

كنا نراقبهم وهم يدقون الأوتاد، لم نتعلم طريقتهم السحرية في ربط الحبال بالأوتاد المثبتة  بالأرض، في كل عام كنت أسهو وأشرد عن مرحلة توزيع الأعمدة الخشبية التي كانت توزع وفق هندسة حفظوها عن أجدادهم ولم أتعلمها. كانوا يعملون بجد، لم يطلبوا يومًا عونًا من أحد، تذكرتهم وتذكرت طوابير الزحمة والفوضى في مخيماتنا أثناء توزيع المساعدات الغذائية.

أبو الفوز طال غيابك، هل أنت منشغل بنصب الخيام على الحدود أم أن الحواجز المنتشرة كالحصى في قاعة مسمكة منزلية اعتقلت (فواز) وأنت الأن تنتقل من باب لأخر لتعرف مصيره أو لتفك أسره.. أين أنت يا أبا الفوز؟

“الربيع والنار توأمان” تعلمت هذه الحكمة من أبو الفوز.. كان يقول:

“مثلما الربيع يجمل وجه الأرض بالمروج والأزهار، فالنار أيضا تطهر وتبيّض النفوس وتحفظ البلاد من العدوان.. ألم تتساءلوا يوما لماذا اختار الله النار عذابا لكل عاص في الأرض؟! لأن النار لا تعرف الرياء والنفاق لأنها تطهر وتكفر عنا الخطايا والسيئات..”

أبو الفوز الغريب، مبيض الأواني النحاسية لا يحب النزوح ولا الإقامة في بلاد الآخرين، أبو الفوز الطارئ والضعيف كان يزورنا ليعلمنا فوائد النار في الربيع، وكيف تنصب الخيام، لكنه كان يغادرنا في الصيف حين تنضج الثمار، ينزع أوتاده من الأرض يحل عقد الحبال ويجمع الأعمدة الخشبية ويلف خيمته معتقدًا أن الرسالة قد وصلت..

لكنه كان يعاود الزيارة في الربيع التالي.. طال غيابه، بدأنا نحن إليه، خمس سنوات من الانتظار كانت كفيلة بالموت والنزوح.. تعال يا أبا الفوز فالصيف على الأبواب ونحن لا نعرف كيف تهدم الخيام؟!

Click to comment

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

To Top