مقالات رأي

الثورة الكاشفة وضرورة المرحلة الانتقالية الأخلاقية وإعادة الإعمار الثقافي والفكري

مجلة-طلعنا-عالحرية-Rising-For-Freedom-Magazine

يوسف المنجد

الثورة الكاشفة أو الفاضحة تعبير كثيراً ما تم تداوله في وصف الثورة السورية، ليس فقط كونها فضحت المواقف الدولية العالمية المخادعة والمتخاذلة حيال ما يجري في سوريا من انتهاك لكل حقوق الإنسان التي تتباهى تلك الدول بكونها القيمة الكبرى لديها وبأنها المدافعة عنها في كل مكان من العالم. ولا بسبب فضحها مواقف الدول العربية والإسلامية التي توصف بالشقيقة، والتي تروج في كل مناسبة بأن العرب أمة واحدة، بعد رفضها مدّ يد العون للشعب السوري الثائر -باستثناء الفتات الذي لم يسمن ولم يغن من جوع- وامتناع معظمها عن استقبال اللاجئين الفارين من أتون الموت اليومي في بلادهم، وتآمر بعضها مع الجلاد ومدّه بالعون المادي والسياسي لوأد الشعب وثورته.

وإنما كذلك بسبب فضحها للكثير من المثقفين والدعاة والفنانين الذين كانوا يحظون بجماهيرية كبيرة، فجاءت رياح الثورة لتنسف الرداء الجميل من الألقاب والأعمال الذي كانوا يكسون به سوءاتهم، فظهروا عراة على حقيقتهم التي جهدوا في إخفائها ببعض المواقف التمثيلية أو الأقوال التخديرية، فتبين للناس كذبهم ونفاقهم بعد أن انحازوا إلى صف القتلة، ووصل الأمر ببعضهم إلى التحريض والمشاركة المباشرة في الجريمة.

الثورة الكاشفة تعبير استخدم كذلك لكون الثورة كشفت ووضحت الحقيقة العارية للواقع الفكري والثقافي المنخور للمجتمع بشكل عام، والتي شكل ظهورها صدمة كبيرة للكثير من الناس الذين كانوا ينظرون إلى واقعهم نظرة وردية متفائلة، ويتغاضون عن البثور التي كانت تظهر هنا وهناك ويقللون من شأنها، جاهلين أنها أعراض بسيطة ظاهرة لأمراض قاتلة دفينة. فلم يكن معظمنا يدرك مدى الهشاشة الاجتماعية التي نحن عليها، ومدى التقعر الثقافي، والتحدب الفكري الذي كنا نقيم عليه بنيان مجتمعنا.

الثورة الكاشفة استخدم في وصف الثورة السورية أيضا لأنها عرَّت كمَّ العطن الأخلاقي والخواء الروحي الذي كان حاضراً بكثرة دون أن نشعر بفجاجته ونرى حجمه الهائل الذي مثل أمامنا بعد الثورة؛ الرياء والخداع والأثرة والغدر والخيانة والضعف والوهن… الثورة طيَّرت أوراق التوت التي كنا نستر بها عوراتنا.

لكن، ربما -حتى لا نقع في ظلم أنفسنا ونقوم بجلد ذواتنا- نعطي شيئاً من الوجاهة للرأي الفلسفي الذي يقول بأن الحروب لا تكشف فقط حقيقة الواقع الثقافي والاجتماعي والأخلاقي للمجتمع الذي تدور فيه رحاها، وإنما هي (الحرب) تجلب معها أخلاقها الخاصة، فهي لا تأتي فقط على البنيان المادي والاقتصادي، وإنما كذلك على البنيان الثقافي والفكري والأخلاقي والروحي له. فربما الانحدار الأخلاقي والانهيار الاجتماعي ليس أصيلاً بطبعه، وإنما هو طارئ أو ثمرة طبيعية للحرب والظروف التي ترافقها. الرأي وجيه جداً، ولكنه لا يلغي أن الحروب لا تأتي فقط بأخلاقها القذرة، وإنما تكشف أيضاً حالة الهشاشة ومواطن الرخاوة الموجودة في المجتمع قبلها.

ما نود قوله بعد كل ما سبق، هو أن صمود الهدنة وتالياً انسحاب القوات الروسية، أنعش الآمال في نفوس السوريين في انتهاء الحرب وأيامها العجاف، وتوقّف حالة النزيف الشاملة التي تعيشها بلدنا سوريا منذ خمس سنوات.. ربما انتهت الحرب حقاً، وربما نعيش حالة الهدوء الذي يسبق العاصفة، ربما انتهى مشوار الألم وحان وقت نشيد الأمل، وربما الطريق لا تزال طويلة، ولكن مع ذلك نرى أنه آن الأوان للانتباه إلى الحالة الاجتماعية والثقافية والفكرية، التي كشفت الثورة نقائصها وتناقضاتها، وأن لا تقتصر مساعينا في التخطيط والبحث على مناقشة مرحلة الانتقال السياسي وإعادة الإعمار المادي، بل كذلك صبّ الجهود بكثافة وبالتوازي في التخطيط والبحث لمرحلة الانتقال الأخلاقي والقيمي، وإعادة الإعمار الثقافي والفكري، فهذا لا يقلّ أهمية عن الجانب الأول، هذا إن لم يتفوق عليه. فالدول والمجتمعات إن لم تتأسس على قواعد فكرية وثقافية وأخلاقية صلدة ومتماسكة، فلا أمل في نجاحها ونجاتها، وإن اجتهدت حدّ الإسراف في إشادة بنيانها المادي، لأنها تبقى عديمة المناعة وعرضة للانهيار في أي لحظة فـ “إنما الأمم الأخلاق مابقيت …. وإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا” أو كما قال الشاعر.

Click to comment

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

To Top