ثقافة

إلى ذاتي.. في زنزانة الحرية

المعتقل وائل سعد الدين

المعتقل وائل سعد الدين

يكاد العام الثالث يمضي.. ومازال النسر أسير الغربان.

في كل مرّة، أو مناسبة، أو حتى جلسة خاصة يُطلبُ مني الحديث فيها عن وائل سعد الدين، أستشعر بالسياط على ظهر القلب، وينتابني شيء يشبه “الثورة” بعنفها ونزقها وطيبها وحنانها؛ لأصرخ في وجه الطرقات، وعابريها: “وائل ليس شاعرًا، وائل ليس معتقلًا، وليس الثائر الحرّ الجبّار، وائل هو البقية الباقية من روحي في الشام.. دعوني وروحي”.

أن تستحضر صحبة أعوام في أسطر؛ هو فعل تشوبه العبثية، وإذا ما كان هذا العرض العبثي على مسرح الغربة، في كواليس الوحشة والأمل بإعادة خلق الوطن من الكلمات؛ فأنت تبحثُ عن مبررات للانتحار، ولا تقلق؛ فهي كثيرة ومتوفرة على قارعة الطريق.

أي وجع يحمل هذه الروح/ روحي؛ على الصراخ في فضاء يسكنه الجميع.. إلا وائل؛ برسالة لوائل؟

وهل تُصرخُ الرسائل أصلًا؟ هل تكفي حنجرة الغريب لإطلاق صرخة تعبر جدار سجن في الوطن؟

وائل.. أذكر جيدًا حين كتبتَ:

“هيّمَ خَطوي بالأمسِ/ وخفّفَ لي وطئي/ قال عن الخير وسرّ الكونِ و وعيِ الأبديّةْ/ فعكستُ الشيءَ بضدّ الشيءِ/ وتجرّحت بصوتي المدن السوريّةْ/ قال ســأنبئكَ بما لمْ أنبئْ أحدًا من قبلُ/ وأمسكني من كفيّ و طرنا/ وعلى العرشِ بكينا/ ناحتْ كلّ ملائكة الجنّة و النارِ/ فأخرج لوحًا من بين الألواحِ/ وسجّلَ../حريّةْ. “

كتبتُ حينها: ليتعلّم الشعراء منك، أتعرف يا وائل؟ قلّة من تعلّمتْ أنّ القصيدة روح الناس، وأنّك إن لم تكتب عن وجع أرواح أهلك، فأنت لستَ شاعرًا، ولو حُملتَ على أكتاف النقاد. عمّ الخراب يا صاحبي، فسدت الأغنية، والعود والحناجر، والرقّ والأصابع، فسد كل شيء إلا الملح النائم ساديّا على جراح الفقد والافتقاد. مازال الملح يفعل فعله الممضّ في خواطرنا الكسيرة!

أتخيّل حين يفيض الشوق عن الاحتمال، خطواتك المتثاقلة على درب ما، أحفظ خطواتك جيدًا، وتنفجر الفاجعة بوجهي: أي درب بقي لتثاقلكما عليه؟ هل بقي ثمّة مأوىً في دمشق؟ أتستقبلنا الغوطة باسمةً كما كانت؟ هل ظلّ هنالك حارة “آمنة” في باب توما لنختبئ فيها بلهاثنا وعيوننا المترقبة عبور غيلان الأمن؛ لنتابع صرخاتنا في الميدان؟

أُغلقت الدروب يا وائل، ما عاد لنا إلّا التثاقل المرهق الخجل في طرقات ليست لنا بحثًا عن ندماء لا يتقنون فعل الحزن ضاحكين، وأعرفُ أنّك تعرفُ أني هربتُ تاركًا بلدي تحت نار أعدائها، هل ستلتمس لي عذرًا من خلف القضبان؟ أم أنك ستخرج باحثًا عن نديم استطاع البقاء، وتعاقبني –كما عاقبتني بلدي– بالحرمان من البوح؟

لم أسمع صوتَك مذ غادرتُ دمشق، أيعقل أنه عقاب من نوع مبتكر؟ لا أعرفُ حقاً إن كنتَ تسأل عن أخباري، إن كان ماضيّ يشفعُ لحاضري، إن كان حضوري يغفر لغيابي، لا أعرف.. وأخافُ أن أعرف، فأنا كأغلب الموتى: لا أرغب بقراءة نعوتي.

وائل.. يا بقية الثورة.. والحرية، يا آخر ما لي في عبث الموت وجنون القصف نعبره ضاحكين من فرط الحياة، يا أول الندماء حتى الظمأ وآخر المرتوين بروح الندامى، يا طفلّي العتيد المرتبك أمام الجمال وهو يدرك أنه هو من يربك الجمال، يا عيني المطرقة بانتظارك:

أنتظر خروجك لتحاكمني، أستحق محاكمة قاسية حاسمة لا رحمة فيها، أنتظر يديك الشاهقتين لتكتب لي: “أين أنت الآن؟” فأجيبك “في ألمانيا”.. وينتهي الحديث بقولك “وأنا في الشام”!.

To Top